في عصر التكنولوجيا المتقدمة، تبرز الأجنة المعدلة جينياً كموضوع مثير للجدل، حيث تتداخل العلوم مع الأخلاقيات. هل نحن على أعتاب ثورة طبية أم كارثة إنسانية؟
الأجنة المعدلة جينياً: هل نقترب من عصر تصميم الأطفال؟
في الأشهر الأخيرة، عاد مصطلح الأجنة المعدلة جينياً إلى الواجهة بقوة، بعد تداول تقارير عن شركات ناشئة تعمل على تطوير تقنيات تسمح بتعديل الصفات الوراثية في أولى مراحل تشكُّل الجنين. والصدمة الأكبر أن هذه المشاريع لا تقف خلفها مؤسسات بحثية حكومية أو جامعات، بل أغنياء التكنولوجيا الذين يضخون ملايين الدولارات لفتح الباب أمام ما يسميه البعض “عصر تصميم الأطفال” أو الأجنة المعدلة جينياً. فهل نحن أمام تقدم طبي قد يغيّر مستقبل علاج الأمراض الوراثية؟ أم أننا نقترب من كارثة أخلاقية تهدد طبيعة الإنسان وسلامة الأجيال القادمة؟
ما هي تقنية التعديل الجيني؟ ولماذا تُعد خطيرة في الأجنة؟
يعتمد التعديل الجيني على تقنية CRISPR التي تعمل كمقص جزيئي قادر على حذف أو تعديل أو استبدال أجزاء من الحمض النووي؛ وعند تطبيقها على البالغين، تنحصر التعديلات في الشخص نفسه، أما في الأجنة المعدلة جينياً فالتغيير ينتقل إلى كل خلية في الجسم، بل يُورث للأجيال اللاحقة. وهنا مكمن الخطر:
أي خطأ صغير غير مرئي في بداية الحياة قد يؤدي إلى أمراض خطيرة تظهَر لاحقاً، أو تغييرات غير متوقعة تطال نَسلًا كاملاً.
شركات ناشئة تقود ثورة الأجنة المعدلة جينياً
1. شركة Preventive
تقارير دولية، آخرها من “وول ستريت جورنال” و”ذا تايمز”، تحدّثت عن شركة مقرّها سان فرانسيسكو تُدعى Preventive، تعمل على تصميم الأجنة لتجنب الأمراض الوراثية. والمثير أن من أبرز مموليها:
- سام ألتمان (الرئيس التنفيذي لـ OpenAI)
- براين أرمسترونغ (مؤسس Coinbase)
وقد جمعت الشركة أكثر من 30 مليون دولار لهذا الغرض. وتعتزم الشركة إجراء تجارب في دول خارج الولايات المتحدة بسبب القوانين الصارمة هناك.
2. شركة Bootstrap Bio
شركة أخرى تحمل اسم Bootstrap Bio، تعمل على ما هو أبعد من علاج الأمراض، إذ أنها تركّز على تحسين الصفات الوراثية مثل المناعة أو البنية أو القدرات العقلية، وفق بعض التصريحات. ومن مخاطر هذه الخطوة أنها تفتح الباب أمام اختيار الصفات “المثالية” لمَن يملك القدرة المالية. وتشير تقارير إلى احتمال إجراء تجارب في دول أكثر مرونة قانونيًا، مما يزيد حضور المخاطر الأخلاقية.
لماذا يموّل المليارديريون تقنية الأجنة المعدلة جينياً؟
المسوِّغ المُعلَن هو إنقاذ الأطفال من الأمراض الوراثية القاتلة. لكن النقاد يتساءلون عما إذا كان هدفهم الأساسي علاجياً فعلاً، أم أن الشركات تسعى لابتكار سوق جديدة تتيح “تصميم الأطفال” بمواصفات خاصة. وهل سيقتصر الأمر على من يملك المال فقط؟ هنا تتحول الأجنة المعدلة جينياً من علاج إنساني إلى مشروع يكرّس الفوارق الطبقية.
الجدَل الأخلاقي والتبعات الخطيرة لفكرة الأجنة المعدلة جينياً
الانتقادات الموجهة من علماء وخبراء أخلاقيات الطب حول العالم كثيرة، وهم يركّزون على:
اقرأ أيضًا...
- أخطاء غير قابلة للتصحيح، فقد يحدث تعديل غير مقصود في الحمض النووي، ويستمر مدى الحياة وينتقل للأجيال.
- تحويل الإنسان إلى “منتج”، عندما يتحول الجنين إلى كائن يمكن “تخصيصه”، تصبح الإنسانية نفسها مهددة.
- هيمنة الأغنياء، ووجود خدمات “تصميم الجنين” للأثرياء فقط قد يؤدي إلى فجوة بيولوجية بين البشر.
- نقص التنظيم الدولي، فلا توجد حتى الآن اتفاقية عالمية صارمة تلزم الشركات والدول بضوابط موحّدة.
دروس من الماضي: صدمة أطفال CRISPR في الصين
عام 2018، فوجئ العالم بإعلان العالم الصيني He Jiankui عن ولادة أول توأمين معدّلين جينياً باستخدام CRISPR. النتيجة كانت كارثية:
- إدانة عالمية
- سجن الباحث
- اكتشاف لاحق لمخاطر في التعديل
- حظر واسع لهذه التجارب
تجربة واحدة كانت كافية لإثبات أن الأجنة المُعدّلة جينياً ليست لعبة علمية. ومع ذلك… يبدو أن بعض الشركات تريد إعادة التجربة — لكن بتمويل يفوق ملايين الدولارات.
إلى أين يتجه العالم؟
هناك ثلاثة سيناريوهات محتملة:
- الاستخدام العلاجي فقط، وبعد عقود من البحث، قد يصبح تعديل الجينات في الأجنة آمنًا بما يكفي لمنع الأمراض الوراثية.
- عصر الأجنة المعدلة جينياً، حيث يمكن اختيار الذكاء، طول القامة، البنية، لون العينين وحتى القدرة البدنية. وهو سيناريو يثير مخاوف أخلاقية هائلة.
- انقسام عالمي، دول تمنع، ودول تسمح، وشركات تستغل الفجوة وتعمل في مناطق أقل تنظيمًا.
ما بين العلم والأخلاق… من يحمي المستقبل؟
التطور العلمي في مجال تعديل الجينات مذهل ومبهر، وقد ينقذ ملايين الأطفال من الأمراض الوراثية القاتلة. لكن الانتقال نحو الأجنة المعدلة جينياً دون ضوابط دولية صارمة قد يفتح الباب لكارثة إنسانية تتجاوز قدرة المجتمعات على إصلاحها. المال وحده لا ينبغي أن يقود مستقبل البشر والتعديل الوراثي ليس خطًا إنتاجيًا، بل مسؤولية أخلاقية تجاه أجيال لم تولد بعد. إنها لحظة مفصلية في تاريخ الطب الحديث: بين الأمل… والانزلاق نحو مستقبل مجهول.
المصدر: صحتك | الصفحة الرئيسية
بينما نتقدم نحو مستقبل غير مؤكد، يبقى السؤال: كيف يمكننا ضمان استخدام هذه التكنولوجيا بشكل مسؤول وأخلاقي؟